إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله.
و بعد :
فإنه لابد لكل مؤمن في سائر أحواله و في كل وقت من ثلاثة أشياء : أمر يمتثله ، و نهي يجتنبه ، و قدر يرضى به (1) ، و هذا في حال الغنى و الفقر، و السفر و الحضر، و الصحة و المرض ، و المنشط و المكره ، و القوة و الضعف ، و الشدة و الرخاء ، و العافية و البلاء ، ذلك بأن لله تبارك و تعالى على عبده حكمين : حكما كونيا قدريا ، و حكما شرعيا دينيا ، فالكوني متعلق بخلقه ، و الشرعي متعلق بأمره { ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين }[ الأعراف : 54 ].
فأما حكمه الديني الطلبي فهو نوعان ، و هذا بحسب المطلوب : فإذا كان المطلوب محبوبا له سبحانه ، تعين على العبد فعله إما وجوبا و إما استحبابا ، و إذا كان المطلوب مبغوضا له سبحانه تعين على العبد تركه إما تحريما و إما كراهة ، فهذا حكم الله تعالى الشرعي الديني الطلبي الذي تضمن الأحكام التكليفية التي هي محل الثواب و العقاب ، و هي الوجوب و الاستحباب و الكراهة و التحريم.
و أما حكمه الكوني القدري فهو ما يقضيه سبحان على عبده من المصائب التي لا صنع له فيها ، ففرض العبد الصبر عليها ، فتبين حينئذ أن مرجع الدين كله إلى هذه القواعد الثلاث : فعل المأمور ، و ترك المحظور ، و الصبر على المقدور ، و أن العبد لا يستطيع الانفكاك عنها ما دام به رمق من الحياة (2).
و لما كانت حقيقة التقوى هي فعل المأمور و ترك المحظور اتقاءا لغضب الله ، انتضمت هذه القواعد الثلاث في كلمتين اثنتين و هما : الصبر و التقوى (3).
لهذا فإن الله تعالى ذكر الصّبر و التّقوى جميعا و قرن بينهما في غير ما موضع من كتابه الكريم ، و رتّب عليهما منحا جليلة و جوائز عظيمة ، كالنصر على الأعداء و التمكين في الأرض ، و حسن العاقبة ، و الفلاح في الدنيا و الآخرة.
و أعداء المسلمين صنفان : كفار محاربون معاندون و هو ما يسمى بالعدو الخارجي ، و منافقون مظهرون للإسلام مبطنون للكفروهو ما يسمى بالعدو الداخلي.
أما الصنف الأول و هم الكفارالمحاربون ، فقد قال سبحانه و تعالى مخاطبا نبيه الكريم : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين }[ آل عمران : 124 – 125 ].
و هاتان الآيتان الكريمتان نزلتا في شان وقعة أحد (4) التي دارت رحاها بين النّبي صلى الله عليه و سلم و من معه من المؤمنين من جهة ، و كفار قريش من جهة أخرى ، و قيد الله تعالى فيهما نصره للمؤمنين و هذا بإمدادهم بجند من الملائكة مسومين – أي : معلمين ، عليهم علامات الشجعان – يقاتلون مع المؤمنين ، قيد الله تعالى نصره و إمداده بالملائكة بشرط لزوم الصّبر و التّقوى.
أما الصنف الثاني من المعادين للمؤمنين و هم المنافقون المظهرون للإسلام و الولاء و المبطنون للكفر و العداء ، فقد قال الله تعالى واصفا بعض أحوالهم : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم و ما تخفي صدورهم أكبرقد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم و لا يحبونكم و تؤمنون بالكتاب كله و إذا لقوكم قالوا آمنا و إذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم و إن تصبكم سيئة يفرحوا بها و إن تصبروا و تتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط }[ آل عمران : 118 – 120 ].
و في هذه الآيات الكريمة ، و بعد أن عدّد الله مكائد المنافقين ، و بين شدة عداوتهم للمؤمنين ، و شرح ماهم عليه من الصفات الخبيثة ، من حرصهم على إفساد أمور المؤمنين الدينية و الدنيوية ، و محبتهم لمشقة المؤمنين و عنتهم ، و شدة بغضهم لهم ، أمر عباده المؤمنين بالصبر و التقوى ، و أنهم إن قاموا بذلك فلن يضرهم كيد أعدائهم شيئا ، فإن الله عز و جل محيط بهم و بأعمالهم ، و مكائدهم التي يكيدون المؤمنين بها.
و هنا إرشاد عظيم من رب العالمين لعباده المؤمنين إلى استعمال الصّبر و التّقوى للسلامة من شر الاشرار و كيد المنافقين و الفجار (5).
من أجل هذا كله فإنه عندما قدم النّبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه المدينة مهاجرين إليها من مكة ، أمرهم الله عز و جل بلزوم هاتين الخصلتين العظيمتين على سبيل الحتم و الوجوب ، و هذا بعد أن أخبرهم أن أعداءهم من المشركين و أهل الكتاب لابد و أن يؤذوهم بألسنتهم و أيديهم إذاية شديدة ، فقال سبحانه : { لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}[ آل عمران : 186 ].
فاستعمل سبحانه لام التوكيد عند إخبارهم بأذى المشركين إيذانا بأن ذلك واقع لا محالة ، ثم قال عندما أمرهم بالصبر و التقوى : { فإن ذلك من عزم الأمور } أي من الأمورالواجبة التي هي عزائم و ليس فيها رخصة بحال من الأحوال.
لهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " المجموع " ( 10 / 508 ) : " فالصبر و التقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة : المؤذين بألسنتهم و المؤذين بأيديهم ، و شر العدو المبطن للعداوة و هم المنافقون ، و هذا الذي كان خلق النبي صلى الله عليه و سلم و هديه و هو أكمل الأمور" اه.
و هذا الهدي أيضا هو هدي غيره من الأنبياء ، فهذا موسى صلى الله عليه و سلم نبي الله و كليمه يرشد قومه – و هم بنوا إسرائيل – إلى لزوم هاتين الخصلتين و هم تحت وطأة فرعون و بطشه و جبروته ، يسومهم سوء العذاب يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم ، كما قال سبحانه : { و قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى و قومه ليفسدوا في الأرض و يذرك و آلهتك قال سنقتل أبناءهم و نستحي نساءهم و إنا فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين }[ الأعراف : 127 – 128 ].
و لما أخذ بنو إسرائيل بنصيحة موسى صلى الله عليه و سلم تحقق وعده إياهم بالتمكين و حسن العاقبة ، فقال سبحانه : { و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض و مغاربها التي باركنا فيها و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا و دمرنا ما كان يصنع فرعون و قومه و ما كانوا يعرشون }[ الأعراف : 137 ].
و قوله تعالى : { بما صبروا } أي بصبرهم ، فالباء سببية و " ما " مصدرية.
هذا هو منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى : ثمرته طيبة ، و عاقبته حسنة ، و سالكه على سبيل أمان و سلامة ، أما من تنكب هذا المنهج المبارك من أصحاب المناهج الدعوية المنحرفة ، فإن مصيره إلى القلاقل و الفتن ، و مآله المصائب و المحن ، و كما قيل في المثل السائر : " لا يُجنى من الشّوك العِنب " و هذا أمر مشاهد معروف و لله الحمد ، قد رأيتموه و أنتم تنظرون .
خُذْ مَا رأيتَ و دعْ شيئا سمعتَ به **** في طلعةِ الشّمسِ ما يُغنيك عن زُحَلْ
و هذا يوسف صلى الله عليه و سلم النبي الكريم الذي قص الله عز و جل علينا قصته في السورة التي تحمل اسم هذا النبي ، و ذكر لنا فيها أذية إخوته و كيدهم له بإلقائه في الجب حسدا من عند أنفسهم ، فصبر على ذلك ، ثم أخذ في الأسر و الرق إلى بيت عزيز مصر ، ثم دعته امرأة العزيز إلى الفاحشة فاتقى الله و امتنع و أبى ، ثم خير بين السجن و الفاحشة فاختار السجن و لبث فيه بضع سنين صابرا محتسبا ، فجعل الله عز و جل عاقبته خيرا بصبره و تقواه ، و أخرجه من ظلمة السجن و جعله في سدة الحكم ، و آتاه العلم و الحكمة.
لهذا قال الله تعالى حاكيا قول يوسف لإخوته عندما دخلوا عليه و هو عزيز مصر فعرفهم و هم له منكرون : { قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق و يصبرفإن الله لا يضيع أجر المحسنين }[ يوسف : 90 ] ، فلما صبر صلى الله عليه و سلم على المصائب ، و اتقى الله بترك المعائب بلغ مرتبة المحسنين.
و قد ذكر الله عز و جل في السورة الآنفة الذكر الجائزتين اللتين أكرم بهما نبيه يوسف صلى الله عليه و سلم ، و قرنهما بالإحسان الذي هو ثمرة الصبر و التقوى ، فقال سبحانه : { و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين }[ يوسف : 22 ] ، و هذه الجائزة الأولى و هي العلم و الحكمة .
أما الجائزة الثانية و هي الملك و التمكين ، فقد قال سبحانه : { و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء و لا نضيع أجر المحسنين }[ يوسف : 56 ].
من أجل ما ذكر فإن الله عز و جل أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بالصبر و التقوى بعد أن قصّ عليه قصّة نوح صلى الله عليه و سلم ، ليأتسي به و بغيره من الأنبياء الذين نصرهم الله بصبرهم و تقواهم ، فقال تعالى : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين }[ هود : 49 ].
فالصبر و التقوى هو طريق الفلاح في الدنيا و الآخرة ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا ورابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون }[ آل عمران : 200 ] ، و الفلاح من الكلمات الجوامع للخير كله ، و تتضمن الفوز بالظفر المرغوب و السلامة من المرهوب (6) ، و بعبارة اخرى دفع كل ضر و جلب كل نفع .
و في خاتمة هذا البحث نسوق كلاما بديعا للإمام ابن القيم ذكره في كتابه " عدة الصابرين " ( ص 6 ) ، قال – رحمه الله تعالى - : " و أخبر [ سبحانه ] أن مع الصبر و التقوى لا يضر كيد العدو و لو كان ذا تسليط ، فقال تعالى : { و إن تصبروا و تتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط } ، و أخبر عن يوسف الصديق أن صبره و تقواه وصلاه إلى محل العز و التمكين ، فقال : { إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } و علق الفلاح بالصبر و التقوى فعقل ذلك عنه المؤمنون ، فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } " اه.